سهام في مهبّ الريح خربشات هالة المغاوري فيينا النمسا 🇵🇪

 

سهام في مهبّ الريح 




خربشات  هالة المغاوري  فيينا  النمسا  🇵🇪


لم تكن سهام تدري، وهي طفلة تترك آثار قدميها على رمل شاطئ الإسكندرية، أن الريح التي كانت تمرّ على وجهها كلمسةٍ عابرة، ستصير يومًا القوة الخفية التي تعيد ترتيب حياتها، وتبعثرها بلا إنذار.

كانت طفلة تنشأ في بيتٍ هادئ، مصريّ الملامح، خالٍ من العنف، مكتفٍ برتابة الأمان. أبٌ بسيط، خفيف الظل، منح أبناءه وبناته مساحة من الحرية لم تكن مألوفة، وأمٌّ آمنت أن الصبر هو الشكل الأرقى للحكمة، وأن الاحتمال فضيلة لا يُساءل صاحبها.

كبرت سهام في حضن هذا الأمان، حتى صار جزءًا من تكوينها. اطمأنّت أكثر مما ينبغي، وأطاعت أكثر مما يجب. لم تتعلم أن تقول “لا”، ولم تُدرَّب على أن ترى نفسها مركزًا للحياة، بل هامشًا يتكيّف مع ما يُفرض عليه.

في زمنٍ كان سقف أحلام الفتيات ينتهي عند شهادة متوسطة، لم تُزرع فيها فكرة الطموح، ولا شُجِّعت على المواجهة. تعلّمت أن القبول قدر، وأن الحياة تُدار عنها لا بها.

في الثامنة عشرة، تزوّجت.

لم يكن الزواج اختيارًا بقدر ما كان انتقالًا منظّمًا من بيتٍ إلى بيت. رجل يحمل الدكتوراه، يكبرها بخمسة عشر عامًا، يعمل في منصب مرموق بكندا. في حسابات الأسرة، كان صفقة مثالية. لم يُسأل عن قلبه، ولم يُفكَّر في فارق العمر. وافقت سهام، لأنها لم تُمنَح يومًا فرصة الرفض.

هناك، في الغربة، بدأ تلاشيها البطيء. لم يرَها زوجها شريكة، بل عبئًا يحتاج إلى ضبط. كان صوته أعلى، ورأيه نهائيًا، ووجوده طاغيًا. عاملها من موقع التفوق الدائم، وألغى إنسانيتها بصمتٍ متراكم، وبنظرات لا تعترف. لم يجرحها بالكلمات، بل بما هو أقسى: التجاهل.

كانت تعود إلى أهلها مثقلة بما لا يُرى: إهمال، قسوة باردة، عصبية تتخفى خلف الصمت. وفي كل مرة، كان الإصلاح جاهزًا، والنصيحة واحدة: “تحمّلي”. فكانت تعود، وتتحمّل، وتُقنع نفسها أن الصبر قد يصنع المعجزات.

لكن الصبر لم يصنع إلا هشاشتها.

تحوّل إلى إذنٍ مفتوح بالاستهانة، وإلى مساحة آمنة للخذلان. حتى نطق الزوج بالطلاق للمرة الثالثة، فانتهى كل شيء دفعة واحدة، كما تسقط الأشياء التي تمسكها طويلًا دون أن تنتمي إليها.

بعد الطلاق، انسحب الأب من المشهد، كما يُطوى فصلٌ لم يعد مهمًا. اختصر الأبوة في أرقام تُحوَّل شهريًا، بلا حضور، بلا سؤال. ثم مضى إلى زواجٍ آخر، كأن سنوات سهام لم تكن سوى تجربة عابرة.

لم يكن الألم وحده ما اجتاحها، بل الإذلال. اكتشفت متأخرة أن العطاء لا يضمن البقاء، وأن الصبر الطويل لا يحمي من السقوط. لم تنكسر، لكنها تغيّرت. تغيّرٌ صامت، عميق، لا يُرى من الخارج.

وجدت نفسها أمًا وحيدة في بلدٍ لا يرحم الضعف. لم يسمح لها الواقع بالانهيار. تعلّمت اللغة، عملت، وقفت على قدميها. غير أن التجربة لم تجعلها أرحم، بل أكثر حذرًا، أكثر برودًا. خرجت منها بقناعة واحدة : من يعطي أكثر مما ينبغي، يدفع الثمن وحده.

كبر الأبناء، وكبرت معهم امرأة لا تثق إلا بنفسها، ترى في العلاقات مخاطرة، وفي القرب احتمال خذلان مؤجل.

عند الأربعين، لم تعد تبحث عن حب. كانت تبحث عن أمان.

قبلت زواجًا آخر، من رجلٍ كندي يكبرها بعشرين عامًا، أعلن منذ البداية أنه يحتاج إلى من يرافق شيخوخته. أعلن إسلامه ليعبر العائق، دون أن يحمل من الإيمان إلا اسمه. كانت ترى ذلك بوضوح، لكنها وافقت. هذه المرة، لم تخدع نفسها. كان الزواج صفقة معلنة، والوعد جزءًا من الاتفاق.

غير أن الرجل لم يكن كما توقعت.

لم يكن زوجًا فقط، بل سندًا. أحب أبناءها دون حساب، شارك في تربيتهم، دعمهم حتى استقاموا في حياتهم، واطمأن أن وعده لها قد اكتمل.

وحين جاء المرض، تغيّرت المعادلة . رأت فيه عبئًا، لا تاريخًا. قيدًا، لا وفاء. أودعته دار رعاية، وتخلّت عن وعدٍ قطعته يومًا، كما لو أن الوفاء بندٌ قابل للإلغاء.

مات هناك، سريعًا، وحيدًا.

ولم تبكِ سهام طويلًا. ما بقي كان معاشًا ومالًا يكفيها لتشعر أن الحساب انتهى لصالحها.

لكن الحياة لا تغلق دفاترها بهذه السهولة . حين جاء دورها، وحاصرها المرض، لم تجد أحدًا. أبناؤها، الذين تعلّموا باكرًا معنى التخلي، أعادوا الدرس بصمتٍ بارد. أودعوها دار رعاية، واكتفوا بالحد الأدنى من الوجود.

اليوم، تجلس سهام وحيدة.

لا تنتظر شفاء، ولا غفرانًا.

تنتظر فقط أن ينتهي ما تبقّى.

سهام لم تكن شريرة، ولم تكن بريئة. كانت امرأة بنت قناعاتها من الخسارة، واتخذت الأنانية درعًا للبقاء. علّمت من حولها، دون قصد، أن التخلي ممكن ومقبول.

وحين جاء دورها، لم تجد سوى ما علّمته، مرتدًا إليها بلا رحمة.

لم تكن ضحية، ولا بطلة.

كانت إنسانة اختارت نفسها دائمًا،

حتى لم يبقَ معها أحد.

إرسال تعليق

0 تعليقات